سلّطت ورقة بحثية منشورة في العدد الأخير من “المجلة الدولية للدراسات الأمازيغية”، التي تصدر عن “المركز الديمقراطي العربي”، الضوء على مظاهر العدالة والمساواة في القوانين العرفية الأمازيغية أو “إيزرفان”، مؤكدة أن هذه الأعراف تضمن استمرارية الموارد الطبيعية للأجيال القادمة، وتُرسّخ قيم التضامن والتسامح داخل المجتمع من خلال تفضيل الحلول التصالحية للنزاعات، كالدية أو النفي، إضافة إلى فرض غرامات مالية لتعزيز السلم المجتمعي كبديل عن العقوبات الجسدية.
وأوضحت الورقة البحثية ذاتها، التي كتبها أحمد أورير من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، أن “الأعراف الأمازيغية ظهرت منذ القديم كضرورة تنظيمية للمصالح وتدبير العلاقات بين الأفراد والجماعات”، مشيرة إلى أنه “بالرغم من تراجع هذه الأعراف لصالح القوانين الحديثة، إلا أنها ما زالت تُلهم الكثير من السياسات الاجتماعية والقانونية بالمملكة المغربية”.
وكمثال على هذه القوانين العرفية التي تُؤطّر حياة “إيمازيغن”، ذكرت الوثيقة “حق المرأة في طلب الطلاق” الذي أقره “أزرف”، وتم تضمينه لاحقا في مدونة الأحوال الشخصية لسنة 2004، إضافة إلى مسألة تقاسم الأموال المشتركة بعد الطلاق، التي أوصت بها لجنة مراجعة مدونة الأسرة، والتي كانت معروفة منذ القدم في معظم قبائل سوس وبلاد جزولة.
وشدد المصدر ذاته على أن “الأمازيغ كانوا من أوائل من ألغوا عقوبة الإعدام واستبدلوها بغرامات مالية أو النفي كأقصى عقوبة”، وهو ما يتماشى مع التوجه الأخير للمغرب، الذي صوّت على قرار الإيقاف العالمي لتنفيذ هذه العقوبة أمام اللجنة الثالثة للأمم المتحدة، على الرغم من إيقاف تطبيقها في البلاد منذ أكثر من ثلاثة عقود.
وسجّل أن الأعراف لعبت دورا مهمّا في تنظيم المجتمع المغربي وإدارة شؤونه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قبل دخول الإسلام إلى شمال إفريقيا، مشيرا إلى دمج هذه الأعراف مع الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية بعد استقلال المملكة عن المستعمر الفرنسي في عام 1956.
وذكرت الوثيقة عينها أن “كتاب القوانين العرفية الأمازيغية” للمحامي والفاعل الأمازيغي أحمد أرحموش أشار إلى “ظهير شريف في شأن ما يتعلق بأمور القبائل ‘البربرية’ بالإيالة الشريفة، يأمر فيه السلطان باحترام ومراعاة النظام العرفي الجاري به العمل في القبائل الأمازيغية”، مبرزة أن “موقف السلطان مولاي الحسن الأول تجاه قبائل آيت باعمران شكّل نموذجا لموقف المخزن من الأعراف، إذ ينص ظهير تعيين القاضي أحمد بن إبراهيم السملالي على ترك الاختيار لقبائل المنطقة في الاحتكام إلى القضاء الشرعي أو القضاء العرفي”.
وبخصوص موقف العلماء من “إيزرفان”، أوضحت الورقة البحثية أن “هذا الموقف كان متباينا، لارتباطه بالسياق التاريخي والثقافي آنذاك؛ فمنهم من انتقد ورفض بعض الأعراف التي تتعارض مع القواعد الإسلامية، كعدم تطبيق الحدود… وهناك فئة أخرى لا ترى مانعا من الرجوع إليها، لا سيما تلك التي لا تتعارض مع الشرع الإسلامي، كالتعاون الجماعي ‘تيويزة’ أو تنظيم الموارد الطبيعية”.
وشدّدت على أن القوانين العرفية الأمازيغية تقوم على مبدأ الفصل بين السلط، وذلك من أجل الحفاظ على النظام والعدل داخل القبائل، رغم أن هذا الفصل لا يتطابق تماما مع المفهوم الحديث لمبدأ فصل السلط، مشيرة إلى وجود مؤسسة “جماعة” أو “أكراو”، التي من مهامها إصدار القوانين والأعراف، وهناك أيضا مؤسسة “أمغار” الذي يعمل على ضمان الالتزام بهذه القوانين وحل النزاعات وتنظيم الموارد المشتركة كالأراضي والمياه، إضافة إلى مؤسسة “إنفلاس” التي تُعد بمثابة سلطة قضائية.
وبَيّنت الورقة البحثية أن الأعراف الأمازيغية انتصرت لمبدأ الصلح وتعويض الضحايا وأهاليهم بدل الانتقام، من خلال عدم اعتماد العقوبات البدنية، ما يعكس البُعد الإنساني في ثقافة “إيمازيغن”، التي تروم تحقيق العدالة بطرق تحافظ على الحياة وترسّخ السلم الاجتماعي، مؤكدة أن “هذه الأعراف ليست مجرد قوانين، بل هي منظومة ثقافية تعكس روح الانسجام بين الإنسان والطبيعة، كما تعتبر مكونا أساسيّا من مكونات الهوية الأمازيغية”.