تكريمٌ للدّرس الفلسفي والكتابة والفكر والعطاء الحقوقي والتدبيريّ حضر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، بجامعة محمد الخامس بالرباط، في ندوة نُظّمت في إطار سلسلة “فكر واعتراف” لشعبة الفلسفة بالكلية بتعاون مع مركز روافد للدراسات والأبحاث، موضوعها علَمٌ من أعلام الدرس الفلسفي بالمغرب، الأكاديمي والمفكر والحقوقي والدبلوماسي علي أومليل.
تجربة استثنائية
قال الروائي ووزير الثقافة السابق محمد الأشعري إن مسار علي أومليل يعكس “تجربة استثنائية” لمفكر “أدرك مبكرا أن الفلسفة العربية عليها أن تتحرر من سعيها المستمر إلى تأصيل الفلسفة، وتنخرط في ظواهر الحياة الحديثة، كظواهر مادية أو تعبيرات فنية وأدبية”، ثم أضاف السياسي اليساري: “أكثر ما تأثرت به في صداقته إخضاع ممارستنا السياسية مهما حملت من قناعات وأحلام للنقد المستمر والمساءلة المنتبهة، والسعي المستمر إلى بناء جسور بين الأفكار التي نتناولها وننتجها وبين العمل الميداني”.
وذكر الأشعري أن “شباب يسار السبعينيات فهموا أن المراهنة على الديمقراطية، مهما طال الطريق، أقل كلفة من المغامرات”، لكن هذا يحتاج “إلى نقد مستمر حتى لا تصير الديمقراطية مثل المعتقد الديني، وحتى تُفضي إلى مؤسسات ديمقراطية حقيقية، لا فقط إنتاج خطاب تمجيدي للديمقراطية”.
وتحدث الشاهد عن “الانسجام الدائم لأومليل مع نفسه ومبادئه واختياراته”، وكيف “يحتفظ بالجوهري في نفسه في كل وضع يعيشه”؛ “فرغم كل إكراهات المرحلة وضغوطاتها كان يفضل الوفاء لنفسه لا التأقلم الأعمى مع وضع لا يقبله”، وقدم أمثلة من بينها تأسيس علي أومليل مع آخرين سنة 1979 الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، التي انتخب رئيسا لها ومديرا لمجلتها “التضامن”، و”تصدى في إطارها مع رفاقه لقضية سوداء في تاريخ حقوق الإنسان بالمغرب، هي معتقل تازمامارت الرهيب، وهو من نقل رسائل المحتجز الضابط حشاد للأمين العام لمنظمة العفو الدولية، وخطا بذلك أول خطوة في طي هذه الصفحة القاسية؛ وفي إطار الجمعية قام بأعمال ساهمت في تأصيل ثقافة حقوق الإنسان ببلادنا؛ لكن رغم إنجازاتها سقطت الجمعية في صراعات سياسية، من أسبابها خاصة الانشقاق في الاتحاد الاشتراكي، ما أفقدها استقلاليتها كجمعية حقوقية، فقدم استقالته دفاعا عن هذه الاستقلالية”.
ومن بين الأمثلة استقالة أومليل الاحتجاجية من مجلس أمناء المنظمة العربية لحقوق الإنسان بالقاهرة بسبب “الوضع غير الطبيعي” بعدما رفض اقتراحه لجنة مشتركة للبحث في اختطاف منصور الكيخيا، عقب اجتماع للمنظمة بمصر، من طرف النظام الليبي الذي يعارضه، واغتياله بعد ذلك.
وتطرق الأشعري إلى اقتراح سفارة القاهرة على أومليل بعدما انطلق “التناوب التوافقي” في المغرب، و”سؤال المسافة من السلطة الذي لا شكّ ناوشه وهو الذي صاحب عائلات المعتقلين السياسيين، وعرف الانتظار الطويل لأبواب السجون، ووزارة العدل، وعايش عن قرب ما يتركه الظلم والعسف من جروح بليغة ليس في نفس السجين وحده، بل في نفس الوطن كله”.
لكن أومليل، وفق المتحدث ذاته، “يقول إن العلاقة الصحيحة مع السلطة ممكنة، بأن يجد صاحب القرار عند المثقف ما هو ممكن الإفادة منه، لا أن يستجدي المثقف لنفسه كرسيا صغيرا يجلس إليه إلى جانب الحاكم، فيلتفت إليه الأخير من حين لآخر ليطلب مشورته لكل غاية مفيدة”.
ومن بين ما تطرقت له كلمة الأديب المغربي سردية علي أومليل “مرايا الذاكرة” التي “تفضح شغفه بالأدب والرواية تحديدا، التي لا أشك في أنها تحتل المساحة الأوفر في قراءاته اليومية، إلى جانب تأملاته في الحال والمآل”.
قامات ومقامات
عاد الأكاديمي محمد الشيخ إلى علاقته بدرس أومليل في نهاية ثمانينيات القرن العشرين وبداية التسعينيات: “ففي فواتح محاضراته حول السلطة الثقافية في الإسلام وعلاقتها بالسلطة السياسية، ووضع الأقليات المسلمة في المجتمعات المسيحية… حدست أنني سوف أصير مدينا له مدى حياتي للفته عنايتي وعناية الطلبة جميعا لكتابات وأفكار، (من بينها) كتابات أبي حيان التوحيدي، أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء”.
وأضاف الشيخ: “محاضرات أومليل استحثّتني على العكوف شهورا على أعمال أبي حيان التوحيدي وقراءتها في الخزانة العامة (…) وثاني ديونه عليّ تنبيه الطلبة غير ما مرة لا إلى أهمية دراسة المسلمين أنثروبولوجيا في مجتمع منتصر فقط، بل الالتفات إلى وضع المسلمين في الوضع المعكوس وقد باتوا يعيشون وضع الأقليات المضطهدة، يبادون ثقافيا شر إبادة تكون (…) وانتبهت إلى ضرورة تنويع المنظور، وعدم الالتفات فقط لتراث الإسلام المنتصر، بل المنهزم أيضا”.
وزاد المفكر ذاته: “علي أومليل قامة، بل قامات، وله عندي مقامات لا مقام فقط”، منها مقام “الصرامة” التي يعرف منها طلبته “فيض حكايات، لأنه لم يكن يحابي أحدا”، ثم “مقام الضيافة”، فمثلا وهو سفير للمغرب في القاهرة ثم بيروت “كان يحضر جل الندوات المغربية، بل يستضيف الوفد المغربي المشارك في بيت السفير”.
وثالث المقامات “مقام الدقة”؛ فهو “من الفريق الذي فكّر كثيرا وكتب قليلا؛ هو مؤلٍّف مقلّ، وقيمة مؤلفاته لا تخفى على كل ذي بصر ونظر؛ كما أنه لا يعيد نفسه، ولا يتكلم في ما لا يحسنه، وهو مفكر حدود وثغور ونهايات، لا مفكر استثمار”، فـ”الاستثماريون من المفكرين العرب كل منهم فرح بما لديه و’اجترار’ من تخصّص في تراثه: الغزّالي، وأبو حيان، وابن رشد، وابن تيمية، وابن خلدون، وغيرهم”.
ومن القيم المنهجية التي أفادها الشيخ من درس أومليل “قيمة الموضوعية”؛ فـ”كثير من المفكرين يصيرون ما درسوه (من أسماء فكرية)”، بينما أومليل “يبقى في استقلالية ونزاهة وموضوعية”، يتحدث “لا بلسان العرُوبيين، ولا الشُّعوبيّين الفرحين بما لديهم، بل هو إن كان له تعاطف في موضوعاته فهو تعاطف أكاديمي نجده عند كبار علماء الاجتماع (…) خفيا لا باديا، عقلانيا لا وجدانيا، ونبيها لا غبيا. (…) وهو في رباطة جأشه، وبرودة دمه، يقدم تشخيصا موضوعيا حصيفا للفكر العربي”.
فيلسوف ضد المألوف
قالت كلمة الأكاديمي عبد الإله بلقزيز، التي قرئت بالنيابة، إن أومليل “واحد من القليلين الذين يرمزون لحقبة ازدهار الفكر والمعرفة في البلاد العربية ويدلون عليه”، وهو “من آخر الفلاسفة العرب الذين يدلون عليها (الفلسفة)”، وله “حاسة ضد المألوف والشائع والسائغ السيار (…) ولا يفارقه الحذر والسؤال (…) وليس مترددا في حديثه، بل مجانبا للاستسهال (…) مع حيطة في الاستنتاج، وحس نقدي وقّاد”، التاريخ لديه “هو المعيار الأدق لفحص الأفكار، والشَّرطيات التي أوجدتها، ووحدها التي تفسرها. والتاريخ والتاريخية ما يعصم النقد من الزلل”.
ونادى أومليل، وفق كلمة الشاهد، إلى “التحرر من نزعة فاشية في الوعي العربي؛ هي استسهال النظر في الماضي بوعي الحاضر أو حاجته، أي آفة الخلط بين الأزمنة (…) وقد أججت دروسه للطلبة الكثير من أسئلته، في علاقته بالتراث الفلسفي الإسلامي وحاجة إدراكه في زمنيته الخاصة، وتجاوزه لفكر حديث، والمعرفة والسلطة في تراث الإسلام…”.
وتطرق بلقزيز إلى تجربة أومليل في “التدريس الجامعي، وسعة معارفه تكوينا، التي تبدت في إلف قسم من الطلاب الاتصال بالمصادر والوقوف فيها على ما جذبتهم إليهِ دروسه من مسائل: بسياحة فكرية وفلسفية مديدة، في الثقافة العربية الإسلامية والغربية الحديثة والمعاصرة، وقراءة المصادر من الثقافتين. وقد ظل رائدا في ترشيد علاقة طلبته بالموروث العربي الإسلامي، وبقدر ما رغّبهم في العودة إلى المصادر بدون تحريض، نبّههم إلى المغبّة التي يؤول إليها كل وعي انبهاري بمعارف القدماء، والانسداد الذي ينتهي إليه كل درس للموروث لا يحيط نفسه بحزام أمان من المعارف والمفاهيم الكونية الحديثة”.
وتطرق الشاهد إلى “قضية نصرة حقوق الإنسان والدفاع عنها، والتنمية الديمقراطية”، التي انتدب أومليل نفسه لها، وانتقل معها “إلى ميدان العمل الحقوقي التوعوي والمطلبي”، كما “حذق العمل الفكري المؤسسي”، بمشاركات في إدارته وتسييره، وإدارة مؤسسات عديدة مثل “منتدى الفكر العربي”.
ومن المراحل التي ركّز عليها عبد الإله بلقزيز في مسار علي أومليل انتقاله “من ضفاف الفكر إلى ضفاف العمل المدني، بجرأة نادرة في زمنها؛ إذ ما كان تفصيلا في مغرب نهاية السبعينيات من القرن الماضي أن يلفي أكاديمي نفسه يوما على رأس منظمة مدنية تحمل اسم ‘الجمعية المغربية لحقوق الإنسان’، تتنزل منبرا لمطالبة سلطة مستبدة باحترام حقوق الإنسان والحريات العامة، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ورفع القيود عن حرية الرأي والصحافة، ومراجعة القوانين التي تقيّد الحريات وتهتضم الحقوق… وأن يكون العاملون في تلك المنظمة والقائمون عليها شخصيات عامة، ينتمي أكثرها إلى قوى المغضوب عليهم مثل ‘الاتحاد الاشتراكي’ وتنظيمات اليسار الماركسي، ويكون محدوبا على الجمعية من القوى عينها المصطدمة مع الاستبداد (…) ودواعي التأسيس وترؤس الجمعية هي التي أخذته إلى الانضمام إلى المنظمة المغربية لحقوق الإنسان بعد نشأتها في 1989، وتقلد منصب رئاسة مجلسها، ثم بعد ذلك أمينا عاما للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في القاهرة عام 1997”.
ويقدّر بلقزيز أن عليّاً أومليل “اجتمع فيه ما تفرق في غيره: الإنتاج الفكري الرصين، الأستاذية المرموقة، الالتزام الاجتماعي الديمقراطي، والعمل الدبلوماسي المحنّك لعقدين من الزمن، لكنه فذّ عن أترابه بعد خلط نافل ذلك بنابل ذاك؛ فلم يجر على الواحد منهما ما أجراه على غيره، فهو دبلوماسي في السياسة والعلاقات العامة، يأخذ الرأي المقابل بالحسنى، لكنه صارم في المعرفة والفكر، كما لم يحزم غيره، ولا دبلوماسية ولا حسنى هنا. وهذه الصرامة ليست مزاجا، بل مِن صلب العقل انتَسلت، ومن قيمه تشبعت، وهي ليست فقط ضرورية للفكر، بل مما لا يقوم الفكر إلا به”.