يمثل إنترنت الأشياء خطوة مهمة لإدارة المياه الجوفية، التي تُعد أحد أهم مصادر المياه العذبة في العالم، خاصة بالمناطق التي تعاني ندرة الأمطار أو التي تعتمد بشكل كبير على المياه المخزنة تحت سطح الأرض.
ومع التزايد السكاني والتغيرات المناخية التي يشهدها العالم، أصبحت إدارة هذه الموارد المائية تحديًا كبيرًا يتطلب حلولًا مبتكرة.
هنا يأتي دور إنترنت الأشياء (IoT) بصفته إحدى أهم التقنيات الحديثة التي يمكنها إحداث تحول جذري في طريقة مراقبة المياه الجوفية وإدارتها.
وإنترنت الأشياء هو مفهوم تقني يعتمد على ربط الأجهزة الذكية بشبكة الإنترنت لجمع البيانات وتبادلها تلقائيًا دون الحاجة إلى تدخل بشري مباشر.
عند تطبيق هذا المفهوم في مجال إدارة المياه الجوفية، يصبح بإمكاننا مراقبة الموارد المائية بدقة عالية وخلال الوقت الفعلي؛ ما يمكّننا من اتخاذ قرارات أكثر استنارة لضمان الاستعمال الأمثل لهذا المورد الحيوي.
إدارة المياه الجوفية بنظام إنترنت الأشياء
يعتمد نظام إنترنت الأشياء لإدارة المياه الجوفية على عدة مكونات رئيسة تعمل بشكل متكامل.
أول هذه المكونات هو أجهزة الاستشعار الذكية التي تُثبَّت في الآبار الجوفية وخزانات المياه. تجمع هذه الأجهزة بيانات دقيقة عن عدة معايير مهمة؛ منها مستوى المياه في الخزان الجوفي الذي يخبرنا بكمية المياه المتوافرة، وجودة المياه التي تقيس نسبة الملوحة ووجود أي ملوثات كيميائية أو بيولوجية ومعدل ضخ المياه الذي يوضح كمية المياه المستخرجة من الخزان.
بعد جمع هذه البيانات، تُنقَل عبر شبكات الاتصال المختلفة إلى مراكز معالجة البيانات. في المناطق الحضرية حيث البنية التحتية للاتصالات متطورة، ويمكن استعمال شبكات الـWi-Fi أو شبكات الجيل الرابع والخامس للهواتف المحمولة.
أما في المناطق النائية أو الريفية، حيث تكون تغطية الشبكات التقليدية ضعيفة؛ فتستعمل تقنيات مثل LPWAN التي تتميز باستهلاكها المنخفض للطاقة وقدرتها على تغطية مساحات جغرافية واسعة.
تأتي بعد ذلك مرحلة تحليل البيانات التي تُعد محور النظام. هنا تُستَعمل تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي لتحويل البيانات التي استقبلتها إلى معلومات قابلة للاستفادة منها.

على سبيل المثال، يمكن للنظام تحليل أنماط استهلاك المياه في منطقة معينة وتحديد ما إذا كان هناك استنزاف مفرط للموارد الجوفية.
كما يمكنه التنبؤ باحتمالية انخفاض منسوب المياه في المستقبل بناءً على معدلات الاستهلاك الحالية والعوامل المناخية.
الأهم من ذلك، يمكن للنظام اكتشاف أي تغيرات مفاجئة في جودة المياه التي قد تشير إلى تلوث أو تسرب مواد ضارة.
المرحلة الأخيرة هي مرحلة اتخاذ الإجراءات بناءً على المعلومات المستخلصة؛ إذ يرسل النظام تلقائيًا تنبيهات فورية إلى الجهات المعنية عندما يكتشف أي مشكلات.
هذه التنبيهات قد تكون على شكل رسائل نصية إلى مسؤولي المياه تحذرهم من انخفاض خطير في منسوب المياه، أو رسائل إلى المزارعين تنصحهم بتقليل كميات الري، أو حتى تنبيهات للسكان في حال اكتشاف تلوث في مياه الشرب.
وفي بعض الأنظمة المتطورة، يمكن إيقاف مضخات المياه تلقائيًا عند اكتشاف أي خلل أو استهلاك غير مفرط للموارد المائية.
فوائد إدارة المياه الجوفية بإنترنت الأشياء
يُقدم تطبيق إنترنت الأشياء في إدارة المياه الجوفية العديد من الفوائد الملموسة التي تجعل منه استثمارًا جديرًا بالاهتمام.
أولى هذه الفوائد هي توفير كميات كبيرة من المياه التي كانت تهدر سابقًا بسبب عدم دقة أنظمة المراقبة التقليدية.
من خلال الكشف الفوري عن أي تسرب في شبكات المياه أو الاستعمال المفرط في مناطق معينة، يصبح بالإمكان توفير ما قد يصل إلى 30% من كميات المياه التي كانت تُفقد سابقًا دون معرفة.
جانب آخر لا يقل أهمية هو تحسين جودة المياه التي تصل إلى المستهلكين، فنظام المراقبة المستمرة يمكنه اكتشاف أي تغيرات في خصائص المياه الكيميائية أو البيولوجية في اللحظة التي تحدث فيها.
ويمكّن ذلك الجهات المسؤولة من اتخاذ إجراءات سريعة قبل أن تصل المياه الملوثة إلى البيوت أو المزارع.
هذا ليس له تأثير إيجابي في الصحة العامة فحسب؛ بل يقلل أيضًا من التكاليف الباهظة التي كانت تُنفق على معالجة مشكلات التلوث بعد حدوثها.
من الناحية الاقتصادية، فإن أنظمة إنترنت الأشياء تساعد في تخفيض التكاليف التشغيلية بشكل ملحوظ.
الصيانة الوقائية التي تعتمد على بيانات دقيقة تمنع الأعطال الكبيرة في المضخات وأنابيب المياه، أما التحكم الذكي في عمليات الضخ فهو يقلل من فواتير الطاقة الكهربائية.
كما أن البيانات التي يجمعها النظام توفر للحكومات والمخططين رؤية شاملة عن الوضع المائي؛ ما يمكنهم من اتخاذ قرارات أفضل في توزيع الموارد المائية وتحديد أولويات الاستثمار بالبنية التحتية.
تحديات تواجه التطبيق وسبل تجاوزها
رغم الفوائد الواعدة لتطبيق أنظمة إنترنت الأشياء في إدارة المياه الجوفية؛ فإن هذا المجال يواجه عدة تحديات تتطلب حلولًا عملية.
أولًا: التكلفة الأولية العالية لتركيب الأجهزة وتطوير البنية التحتية تمثل عائقًا رئيسًا، خاصة في الدول النامية ذات الموارد المحدودة.
ومع ذلك، يجب اعتبار هذه التكلفة استثمارًا طويل الأجل يعود بفوائد اقتصادية أكبر على المدى البعيد.
ثانيًا: تتطلب الأنظمة بنية تحتية قوية للاتصالات والطاقة. في المناطق الريفية، حيث توجد معظم الآبار، قد تكون شبكات الاتصالات ضعيفة أو معدومة، والتيار الكهربائي غير مستقر.
ويمكن معالجة هذه المشكلة عبر استعمال تقنيات الاتصال منخفضة الطاقة مثل LoRaWAN، بالإضافة إلى الألواح الشمسية لتشغيل الأجهزة في المناطق النائية.
ثالثًا: تبرز قضية الأمن السيبراني بصفتها أحد أهم التحديات. يعتمد النظام على نقل البيانات عبر الإنترنت؛ ما يجعله عُرضة للاختراق.
لذا، يجب تطبيق أعلى معايير التشفير واستعمال شبكات اتصال خاصة مع تحديث البرمجيات بشكل دوري.

أخيرًا: يتطلب تشغيل هذه الأنظمة الحديثة كوادر بشرية مدربة. يحتاج العاملون في إدارة المياه إلى تدريب متخصص لفهم التقنيات وصيانتها.
ويمكن التغلب على هذا التحدي من خلال برامج تدريبية مكثفة والتعاون مع الجامعات لتدريس هذه التقنيات في التخصصات الهندسية.
يمكن التعامل مع تحديات استعمال إنترنت الأشياء في إدارة المياه الجوفية من خلال نهج متكامل يركز على التدرج في التطبيق والاستفادة من الحلول المبتكرة.
يبدأ ذلك بمشروعات تجريبية صغيرة لتقليل التكاليف، واستعمال تقنيات لاسلكية مثل LoRaWAN، وتطبيق معايير تشفير عالية لضمان أمن البيانات.
كما يمكن تطوير واجهات مستخدم مبسطة لتسهيل التعامل مع الأنظمة.
بالإضافة إلى ذلك، تُسهِم حملات التوعية في بناء الثقة بالتقنية الجديدة؛ ما يحوّل التحديات إلى فرص لتحقيق إدارة مستدامة للموارد المائية.
دور المجتمع في نجاح هذه التقنية
لكي تحقق هذه التقنية أهدافها الكاملة، لا بد من مشاركة فعالة من مختلف فئات المجتمع.
الأفراد يمكنهم المساعدة من خلال تبني ثقافة ترشيد استهلاك المياه في منازلهم، والاستجابة للتوصيات التي تصل إليهم عبر أنظمة المراقبة الذكية.
كما يمكن للمستهلكين تركيب أجهزة استشعار صغيرة لمراقبة استهلاكهم المائي واكتشاف أي تسرب محتمل في الأنابيب.
المزارعون، وهم أكبر مستهلك للمياه الجوفية في معظم الدول، يمكنهم الاستفادة بشكل كبير من التطبيقات الزراعية الذكية التي توفرها هذه التقنية.
بدلًا من الاعتماد على الطرق التقليدية في الري، يمكنهم ضبط أنظمة الري لديهم بناءً على البيانات الدقيقة التي توفرها أجهزة الاستشعار عن رطوبة التربة واحتياجات المحاصيل الفعلية.
أما الحكومات والجهات الرسمية؛ فلها الدور الأكبر في نجاح هذه التقنية؛ إذ يتعيّن عليها استثمار الموارد اللازمة لبناء البنية التحتية التقنية، ووضع التشريعات التي تشجع على تبني هذه الحلول الذكية، وتنظيم حملات توعوية لشرح فوائد النظام للمواطنين.
كما أن التعاون بين الحكومات والشركات التقنية المتخصصة يمكن أن يساعد في تطوير حلول مخصصة تناسب ظروف كل منطقة.
نحو مستقبل أكثر إشراقًا للموارد المائية
يتضح لنا أن إنترنت الأشياء ليس مجرد تقنية حديثة، بل هو أداة قوية يمكنها إحداث تحول جذري في طريقة إدارتنا للموارد المائية الجوفية.
من خلال الجمع بين أجهزة الاستشعار الدقيقة، وشبكات الاتصال المتطورة، وتحليلات البيانات الذكية، أصبحت لدينا اليوم القدرة على مراقبة مواردنا المائية بدقة غير مسبوقة واتخاذ قرارات مستنيرة لحمايتها.
التحديات التي تواجه تطبيق هذه التقنية، رغم أهميتها، ليس من الصعب التغلب عليها. مع التطور المستمر في تقنيات الاتصالات وانخفاض أسعار الأجهزة الإلكترونية، يصبح تطبيق هذه الأنظمة في متناول عدد متزايد من الدول.
الأهم من ذلك، أن الوعي المتزايد بأزمة المياه العالمية يجعل الاستثمار في هذه الحلول الذكية ضرورة ملحة وليس مجرد خيار تقني.
إن حماية المياه الجوفية ليست مجرد مسؤولية، بل هي التزام نحو مستقبل أفضل. باستعمال تقنيات إنترنت الأشياء، يمكننا مراقبة هذه الموارد الثمينة وإدارتها بشكل أكثر فاعلية.
إن الاستفادة من الابتكارات التكنولوجية اليوم ستثمر عن بيئة مائية أكثر استدامة غدًا. لذا، يجب علينا اتخاذ خطوات فعالة نحو اعتماد هذه الحلول المبتكرة لضمان بقاء هذه الموارد الحيوية للأجيال القادمة.
* الدكتورة هبة محمد إمام - خبيرة دولية واستشارية بيئية مصرية
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضًا..